اليوم هو بداية تحدّي الكتابة بيني وبين عبد الله، واختار أن نبدأ بكلمة “الروتين”. أعتقد أن عبد الله اختار هذا العنوان لأنني ومنذ زواجنا لا أنفك عن الحديث عن حاجتي لبناء روتين جديد في إسطنبول. “عبدالله، بدي روتين مشان ما أفقد السيطرة على أعصابي”.
أشعر بأن عقلي لا يعمل إذا لم يكن هناك شيء ثابت أتمسّك به: جدول واضح، أوقات محددة للاستيقاظ، للأكل، للعمل، ولليوغا. غياب هذا الإيقاع يجعلني متوترة، ويضاعف إحساسي بعدم الأمان، وكأنني في مكان لا أعرف كيف أتحرك داخله.
أسترجع الآن السنوات الثلاث الماضية، وأدرك أن هذا التعلّق الهوسي بالروتين بدأ في لحظة انهيار. كل شيء تقريبًا خرج عن السيطرة في تلك المرحلة، وبقيت أحاول استعادة تلك السيطرة “المتخيلة” بأي طريقة. لم أكن أعرف وقتها أن هذا الروتين ليس إلا وجهًا آخر لحالة القلق التي كنت أعيشها. لم يكن الأمر مجرد رغبة في تنظيم يومي، بل كان محاولة مستميتة لحماية نفسي. شعرت أن كل شيء قابل للتغيير إلا كوب القهوة الذي أستخدمه صباحًا، أو الطريق الذي أسلكه عند الخروج من المنزل. الروتين أصبح وسيلتي لمقاومة تعبي من هذا العالم، على قول سيوران وكان كذلك محاولتي لتضييق نفسي ورسم حدود واضحة لا جدال فيها.
منذ أن كنت في السابعة من عمري، كنت أُصاب بالحزن إذا غيّرت أمي ترتيب الغرفة. مجرد تحريك السرير من مكانه كان يربكني ويجعلني أشعر بفقدان التوازن. في مرحلة لاحقة، أصبح الروتين شيئًا أكبر: نفس الفطور، نفس الركض، نفس مواعيد النوم والاستيقاظ. كنت أظن أن الالتزام بهذه التفاصيل سيمنحني نوعًا من السيطرة، لكنني كنت في نهاية كل يوم أشعر بالضيق نفسه، وكأنني أبذل مجهودًا كبيرًا لأحافظ على توازن هش.
الروتين كلمة فرنسية الأصل، تقابلها في العربية كلمة “دأب”. ويقال “دأب على الشيء” أي واظب عليه دون فتور. يعني، المفروض ما في حدا “بيدأب” على شيء مو منيح، بس الإنسان غاوي شقا طبيعته.
كثيرًا ما كنت أبحث عن مفهوم الروتين والعادة من منظور علم النفس. في علم النفس السلوكي، يُشير الروتين إلى سلسلة من السلوكيات المتكررة التي نؤديها تلقائيًا. الهدف من هذا التكرار هو تقليل الجهد الذهني، بحيث لا نُعيد اتخاذ القرار نفسه في كل مرة- لتقليل ما يُعرف بـ “الحمل المعرفي”.
في الدماغ، تنشط هذه العادات داخل العقد القاعدية، وهي المنطقة المسؤولة عن الأنشطة التلقائية، مما يخفف الحمل عن الفص الجبهي، المسؤول عن اتخاذ القرارات الواعية. تخيّل مثلًا لو أن عقلك غير قادر على بناء عادة، وكنت مضطرًا يوميًا أن تفكر بكل تفصيلة صغيرة: من اختيار اليد التي ستفرّش بها أسنانك، إلى طريقة عقد حذائك. وجود روتين منتظم يتيح للدماغ مساحة للتركيز على ما هو أهم.
لكن عندما تكون مصابًا باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه (ADHD)، يصبح الروتين حاجة مضاعفة، وفي الوقت نفسه عبئًا مضاعفًا. أحتاجه كي لا أنسى وأهدر وقتي، لكنني أتمرد عليه سريعًا. أضع الجداول، أكتب الخطط، ثم أشعر بالاختناق منها. أرتب أيامًا مثالية على الورق، ثم أشاهدها تنهار عند أول موجة تعب أو تغيّر في المزاج. الزمن بالنسبة لي ليس مستقيمًا، لا أشعر بتسلسله بشكل واضح، وهذا ما يجعلني أعيش حالات من الانفصال الكامل عن اللحظة.
بدأ هذا التوتر يخف فقط عندما دخلت اليوغا إلى حياتي. لم تكن حلًا سحريًا، لكنها ساعدتني على استيعاب الوقت بشكل مختلف. لم أعد أنظر إلى الروتين كقائمة إنجازات، بل كمساحة للحضور. خلال جلسة اليوغا، لا يوجد أداء مطلوب. كل ما يُطلب مني أن أتنفس وأشعر بجسدي كما هو.
تكرار الوضعيات نفسها لمدة ساعة، مثل محاولاتي اليومية للوصول إلى وضعية الوقوف على الرأس، يعلّمني معنى الالتزام دون قسوة. لن أصل إليها إن لم أمارسها يوميًا، لشهور، وربما لسنوات. لكن لا أحد يقيّمني خلال ذلك. أنا فقط أحاول أن أكون.
صحيح أن الروتين قد يتحوّل إلى عبء عندما يُستخدم كمقياس للنجاح أو الفشل. أحيانًا أحصي كل ما لم أفعله في اليوم، وأشعر أنني خذلت نفسي. أن أنام متأخرة يصبح فشلًا، أن آكل قطعة شوكولاتة يصبح خروجًا عن السيطرة، أن أشعر بالتعب يصبح علامة ضعف. لكنني أتعلم، ببطء، أن الروتين لا يجب أن يُستخدم كأداة جلد، بل يمكن أن يكون طقسًا بسيطًا يُساعدني على الإحساس بالثبات.
أفكر كثيرًا – وما وصلت إلى إجابة واضحة بعد (الكلام لعبدالله)-أن الروتين الجيد لا يُفترض أن يُحكمني، بل أن يحتوي فوضاي. أن يرافقني، لا أن يسحبني. أن أستيقظ في وقت يناسب جسدي، أن أشرب القهوة بهدوء، أن أكتب دون الشعور بالذنب، أن أمارس الرياضة حين أحتاج، لا حين يفرضها الجدول.
روتيني المثالي اليوم ليس جدولًا صارمًا، بل نظام بسيط فيه مساحة للتغيّر، والتسامح، والتعاطف. فيه نية للعودة، حتى لو ضعت يومًا أو اثنين. روتيني هو وسيلتي للنجاة، لا وسيلة لأثبت بها شيئًا لأحد. يعني باختصار بدي روتين، بس مش اللي بخينق بدي روتين بيحضن وبيخليني أكبر وأتعلم وأركض ١٠ كم أو أكتر وأوقف ع راسي وأعمل splits وأقرأ وأرجع ألعب ع العود وأسافر العالم مع عبدالله يعني روتين كتكوت بينحط بالشنتة