الخوف، شعور يتدفق من كل مكان حرفيًا، موجود قدم الإنسان، هو لولاه لم نكن سنكن هنا الآن. فالإنسان الأول كان محاطًا بالموت من كل حدب وصوب، والخوف ساعده على اتخاذ فعل لحماية نفسه. لا أحد يحب الخوف طبعًا (إلا في الرولر كوستر والملاهي بعدني ما بفهم ليش)، أنا شخصيًا أشعر به في حلقي ومعدتي، في البداية كان يظهر على شكل بكاء، والآن يكون على شكل تجنب أو غضب.
الخوف هو البنية التحتية لوجودنا المعاصر، في كتاب “الخوف السائل”، يتحدّث زيجمونت باومان عن كيف تغيّر شكل الخوف في عصرنا الحالي، من خوف واضح له مسببات صريحة ومباشرة إلى خوفٍ مائع، غامض، ينسكب من كل مكان: من النشرات الإخبارية، والإشعارات، من عناوين الفيديوهات، ومن إشعارات الهواتف. لم نعد نخاف من شيءٍ بعينه، بل بتنا نخاف من “الاحتمال”. احتمال الفقد. احتمال المرض. احتمال الفشل. احتمال أن نُنسى. احتمال أن لا نصنع مليون دولار. احتمال أن يزيد وزننا. نخاف التجاعيد والزمن.
يعني أن الخوف الحديث ليس خوفًا من شيء، بل خوف من كل شيء. في علم النفس، يرتبط الخوف بالنجاة. الأميغدالا جزء في الدماغ مسؤولة عن دقّ جرس الإنذار عند الحاجة. لكن ماذا لو لم نكن في خطر؟ ماذا لو كنا فقط ننتظر الخطر أن يأتي؟ الخوف في هذه الحالة يصبح اضطراب عصبي، يصبح طقس وإدمان. والأسوأ هنا أن دماغ الإنسان لا يستطيع التمييز بين ما هو خطر حقيقي وما هو مجرد فكرة أو وهم، وهنا تظهر نوبات الهلع واضطرابات الأكل والقلق العام والفوبيا وغيرها.
أتذكّر في طفولتي، كنت أخاف بشدة من ثمانية أشياء:
العتمة
أن أنقص علامة واحدة فقط
أن لا أصبح طبيبة
عندما يسافر والدي
من التقيؤ
من الزلازل
من الإيدز (مواليد التسعينات ” مسلسل حاجز الصمت” )
من أن تتوقف أمي عن حبي إذا ما أصبح لدي إخوة وأخوات
بعد ذلك أصبحت مخاوفي تترقى، اجتزت المراحل جميعها، لم أدرس الطب بالمناسبة، درست الصيدلة (ولم أمت ولم ينتهِ العالم). أصبحت علاقتي بالخوف متجددة: صرت أخاف أشياء أخرى. أخاف أن أبقى وحيدة، أن لا أحب، أن أموت، وأن تموت أمي. بعد ذلك أصبحت أخاف الطيران، والأصوات العالية، والسيارات. وبعدها أصبحت أخاف من الطعام.
في منصة كورا، بحثت عن الخوف: وجدت هنالك إجابات ك “أن أصبح زوجة، أن أخسر مكانتي الاجتماعية، أن لا أجوب العالم…إلخ” وغيرها من مشاكل العالم. إنها مخاوف الامتياز. أما نحن، فمخاوفنا غالبًا ما تُصاغ كصراع مع البقاء، مع الهوية، مع الانتماء، مع الكرامة. أتذكر كلام تاتا ليلى التي كان خوفها الأكبر أن لا تتمكن من العودة لمدينتها أبدًا وهو ما حصل بالطبع، وهو خوف ورثته أنا وأخواتي وأخي الخوف من أن تبقى بلا وطن بدون شعور انتماء حقيقي بدون أن تعرف لماذا حدث هذا كله.
منذ أحداث السابع من أكتوبر وجدت نفسي أبحث عن تفسير أكثر ملاءمة لحالتي لماذا كل هذا الغضب والضيق؟ بدأت بالتعمق في في علم النفس الاستعماري والتحرري، والذي ممكنني من الحصول على أجوبة أوضح وأنسب لي، فعلم النفس الكلاسيكي لا يناسبنا بالطبع، ولا أي تمرين تنفس سيمكننا من تحرير الغضب.
هنا الخوف ليس شعورًا ذاتيًا، بل سياسي. فالخوف في المجتمعات المقهورة ليس حالة نفسية بل بنية اجتماعية. نحن لا نخاف فقط لأننا بشر، بل لأننا عرب، أو نساء، أو فقراء، أو محتلون.
في علم النفس التحرري لا يُعالج الخوف كعقدة نفسية فردية، بل يرى أن جذره اجتماعي وجيوسياسي. ويقدم أدوات لتمكين الذات:
الوعي بالضغوط: إدراك أن خوفك ليس فقط مشكلة داخلية، بل نتيجة بيئة اجتماعية وسياسية.
اللعب على الواقع: مواجهة الخوف العضوي وإعادة تفسيره كمؤشر لا كمكبر للضرر.
التفكير النقدي: إسقاط الاعتقاد أن الخوف طبيعي دائمًا، فالكثير منه مبرمج لأجل بقاء أنظمة.
المشاركة الجماعية: الحوار موجّه للتجاوز والفهم الجمعي، لا للصراع واثبات التفرد الذاتي.
كيف نتعامل مع الخوف طيب؟ دليل بسيط
عرّف خوفك: هل هو خوف من فقدان الهوية؟ من الوحدة؟ من الإنسان المختلف؟ حدد اسمه، شكله، وأين يسكن في جسدك.
جرب “التصوّر السلبي”: تخيّل أسوأ سيناريو ممكن. اسأله: ماذا بعد؟ إن بقيتَ على قيد الحياة، فقد انكسر سحر الخوف.
شارك خوفك: استخدم المشاركة الجماعية لتفكيك الخوف كمشكلة شخصية إلى قضية اجتماعية.
لا تخف من القلق: القلق قد يكون طاقة حيوية.
راقب رد فعل جسدك: عند ملاحظة رد الفعل، تبدأ في تحرير مساحة جديدة داخلك.
في كلّ مرة نخاف فيها ونتراجع، نعيد برمجة الدماغ على أنّ “التجنّب آمن”. وهذا ما يجعل الخوف يتوسّع. نتجنّب الناس، الأماكن، الأحلام، الكلمات، وحتى الحب.
الخوف ليس عدوًّا نقتله. هو مرآة. حين نحدّق فيها جيدًا، نرى الحقيقة: أننا لا نريد أن نحمي أنفسنا فقط، بل نريد أن نشعر أن وجودنا في هذا العالم له ما يستحق أن نخاف عليه.
ولنتذكر ما قالته ماري كوري عن الخوف – وهو اقتباسي المفضل عنه بالمناسبة.
“إننا نخاف فقط ما نجهله، ولا يوجد ما يخيفنا على الإطلاق بعد أن نفهمه”