نحن لا نولد مزوّدين بخريطة نجاة، بل نكبر ونحن نفتّش عنها في كل شقٍّ من العالم. بالنسبة لي، لم تكن القراءة مجرّد هواية، بل طوق نجاة. كانت الأداة التي ساعدتني على قبول خساراتي، لا استسلامًا لها بل لأعبرها وأخرج من الجهة الأخرى أكثر صلابة.
سألتني صديقتي مرات عديدة: ما جدوى قراءة الأدب؟ وكان جوابي دائمًا: هو ما يجعلني قادرة على تحمّل هشاشتي. الأدب، ببساطة، يُصالحني مع نفسي. أقرأ لأصل إلى تلك اللحظة التي تهمس فيها الجملة لي: “يا الله، هذا أنا”. أقرأ كي أطمئن أنّني لستُ وحيدة، وأن ثمّة مَن مرّ من هنا قبلي، وأنني أستطيع أن أواصل.
حين ضاقت بي الحياة، لم ينقذني أحد، بل أنقذني كتاب. لا لأن فيه حلًّا، بل لأن فيه مَن يقول: “أنا أيضًا، تألمت.” مثل ما قاله سالنجر في “الحارس في حقل الشوفان”: “الكتب التي تثير اهتمامي بالفعل هي تلك التي عندما أنتهي من قراءتها أرغب في أن يكون المؤلف صديقاً عزيزاً لي وأستطيع أن أخابره بالتليفون.”
خذ مثلا هولدن كولفيلد بطل الكتاب السابق. لم يكن مجرّد مراهق غاضب، بل كان أيقونة للغضب الحزين، مرآة للفراغ الوجودي حين يخذلك الكبار. كان يسير بمحاذاة الهاوية، لا لينقذ نفسه، بل لينقذ الآخرين. التمرّد في روايته لم يكن عبثًا، بل رجاءً خافتًا للحب. عزلته، بقدر ما كانت صاخبة، كانت أيضًا مألوفة، كأنها تعرفني.
هل تغيّرنا القراءة؟ لا بشعارات كبيرة، بل بما يشبه النحت الصامت داخلنا. كأنها تُعيد تشكيل أرواحنا على مهل.
قرأت تجارب كانت أكثر فتكًا وتأثيرًا من الحياة ذاتها. قراءتي للأدب لم تكن هواية، بل إعادة تدوير لروحي. أداة لاستعادة يقيني بالعالم. تمامًا كما قالت بثينة العيسى: “إن قدرتي على القراءة، على تخصيص وقتٍ للقراءة، هي المؤشر الذي أعتمده لتقييم جودة الحياة، لأننا إذا فقدنا هذا الحق، الحق في الجلوس بصمت والقراءة، ستبدو الحياة مثل ركضٍ مؤبد في عجلة الهامستر”
هنا بعض من تلك التجارب
“الجريمة والعقاب” كانت الغرفة التي واجهت فيها نفسي. مع دوستويفسكي، لم أقرأ عن راسكولينكوف فقط، بل دخلت ذهنه المرتبك، وخضت برفقته الجدل الأخلاقي الحارق: هل يملك الإنسان الحق في كسر القانون إن ظن نفسه استثناءً؟ كانت الرواية درسًا في التواضع أمام جبروت الضمير، وفي فهم كيف يمكن للذنب أن يسكن الجسد كما يسكن الظل الجدار.
في “الحرافيش”، مثلاً، تتكرر الحكاية، لكن كل تكرار يكشف شيئًا جديدًا عن فساد السلطة وتهالك الروح. لم أكن فقط أتابع أجيال عاشور الناجي، بل كنت أراقب نفسي وأنا أتعلم أن الكرامة لا تُورّث بل تُنتزع. أمّا “العمى” لساراماغو ( من كتابي المفضلين)، فكان أكثر من مجرد رواية رمزية؛ كان تجربة أخلاقية كاملة فجّة جدًا ولكنها صادقة جدًا.رواية لم تترك لي خيارًا سوى أن أواجه نفسي وأسأل: من سأكون إن اختفت كل أدواتي؟ من أنا حين لا أُرى؟ كانت مرآة مكشوفة على هشاشة الإنسانية
قراءة “الناقوس الزجاجي” ك”الناقوس الزجاجي” أخذني إلى هوّة العقل المتشظي. سيلفيا بلاث لم تكتب عن الجنون، بل كتبته. كشفت لي كيف يمكن للألم أن يكون عدسة، لا عبئًا.
في “السندباد الأعمى”، تفكّك بثينة العيسى فكرة النجاة نفسها، وتسأل: ماذا لو كانت النجاة وجهًا آخر للضياع؟ الحكايات هنا ليست مأوى، بل محكّ. والبحر لا يَعِد، بل يبتلع ويختبر.
أما في “الطنطورية”، فقد صار صوت رُقيّة صوتًا لي. كانت تمشي فوق خرائط الخراب الفلسطيني وتُبقي قلبها نابضًا، رغم الموت والخذلان. شعرتُ أنها لا تحكي فقط عن الوطن، بل عن تلك الزاوية المهجورة داخل كل منا.
خذ مثلا كتاب “دفاعًا عن الجنون” لممدوح عدوان ففهمت أن الجنون ليس مرضًا، بل احتجاج أخلاقي على عالم لا يُطاق. وأن في الكلمات المنفلتة نوعًا من الشجاعة.
شخصيات ستيفان زفايغ ليست خارقة، لكنها مشبّعة بالحساسية. كل شعور فيها مُلتقط، مُضاعف، مُخمّر. القراءة له أشبه بلمس جلد حي.
في “ابنة الحظ” لإيزابيل الليندي، لم أكن أتابع رحلة فتاة، بل كنت أقرأ عن البحث الإنساني الأزلي عن معنى الانتماء. لفتتني قدرة بطلتها على صنع مصيرها وسط فوضى مجنونة.
“التبر” لإبراهيم الكوني لم يكن كتابًا عن الصحراء، بل عن الإنسان حين تُجرّد عنه كل الزينة والزيف. رأيت فيه كيف يمكن للمكان أن يصبح مرآة للروح.
“سأكون بين اللوز” حسين البرغوثي كان نشيدًا عن الغياب والحنين، لكن دون شفقة. كانت القصيدة ترفع الغربة إلى مقام الشعر، وتحوّل الخسارة إلى جمال.
كل هذه الكتب لم تكن مجرّد سرد، بل مختبرات أخلاقية وجمالية. كنت أخرج من كل قراءة وفي داخلي شيء تغيّر، شيء بَهُت أو انطفأ أو أضاء.
والسؤال الكبير: هل تغيّرنا القراءة فعلًا؟ نعم. لكن ليس بالطريقة التي نعتقد. القراءة لا تزرع فينا الفضيلة دفعة واحدة، بل تقوّض القسوة تدريجيًا، تُعلّمنا التروّي، تجعلنا أقل ثقة بأحكامنا السريعة، وتمنحنا الجرأة على قول: “لا أعرف”.
قراءة الأدب تشحن قدرتي على التعاطف مع ذاتي ومع الآخرين، صرت أرى الناس ككتاب، لا يمكن فهمهم من العنوان فقط. صارت أشياء كالألم والغضب والغيرة والحزن مألوفة، لأنني رأيتها على وجوه كثيرين مرّوا في الروايات.
القراءة لا تصنع منّا قديسين، لكنها تسرّب فينا ببطء ما يشبه النُبل. تعلّمنا الحذر من الأحكام، والحنو على الآخر، حتى لو كان الآخر داخلنا.
نعم، الأدب لن يوقف الحروب. لكنه قد يجعلنا نُبطئ قليلاً قبل أن نضغط الزناد. لن يغيّر السياسات، لكنه قد يُغيّر زاوية نظرنا، يلين قلوبنا، يذكّرنا أن خلف كل رقم اسم، وخلف كل اسم حلم.
لذلك أقول بثقة: نعم، لقد أنقذتني الكتب. لا بمعجزة، بل ببطء، بصدق، بجمال لا يصرخ. لقد جعلتني أتحمّل الحياة… وأحبّها أحيانًا. ربما لم تُغَيّر هذه الكتب واقعي، لكنها غيّرتني أنا. جعلتني أتحمل الحزن، أفهمه، أراه في الآخرين. وهكذا فقط، وجدت طريقي.
وكما تقول جاكلين ميتشارد في مقالتها: الهِبات غير المتوقعة من الكتابة عن الحزن “نعم، نحن وحيدون. لكننا وحيدون معًا.” والقراءة كانت ولا تزال طريقة للمس هذا الشعور البشري الهش: أن نُرى، أن نفهم، أن نُعانَق من بعيد.