التدوينة الرابعة: سيرة خمس أغنيات رافقتني


يستهل  عمر طاهر كتابه الظريف جدًا -والذي أنصح بسماعه صوتيًا بشدة-  “إذاعة الأغاني: سيرة شخصية للغناء”:

“بينما تجري الحياة.. ثمة أغنية ما تدور في الخلفية. بينما تدور أغنية ما.. ثمة حياة تجري في الخلفية.”

وأنا آتفق مع  ذلك بشدة شديدة. لا أتذكّر مشهدًا من حيواتي السابقة  دون أن يصاحبه صوت أغنية، وهو ما تؤكدة تعليقات الناس على youtube.

أنا أحب الموسيقى كما يحب الظمآن فكرة الماء. أحب اكتشاف موسيقى جديدة، وأحب أن أشاركها مع من أحب، وأشعر أنها من أصدق الطرق للتعبير عن الذات.
في الموسيقى أجدني.

أبي يحب الموسيقى، أمي لا.كان يكلّمها بالأغاني… ويخاصمها بالأغاني. يحبّ وردة كثيرًا. ويحب مارسيل، وكاميليا جبران، وأبو عرب، وأم كلثوم، وعبد الوهاب… أسماء كثيرة، أصوات كثيرة، كانت تعيش معنا في البيت.

في المساء، كانت هناك فتّة بالحليب… وغناءٌ عالٍ.  أبي يرفع الصوت إلى الحدّ الذي نشعر فيه أن الأغنية ليست في الخلفية، بل هي الحدث نفسه.
في الصباح، كان صوت فيروز يسبقنا، يملأ البيت حتى ونحن لا نزال نغسل وجوهنا. ننتقل بعدها إلى برنامج “يوم جديد” على تلفزيون الأردن مع القهوة و”تاتا” إيذانًا ببدء اليوم.

عند جدتي لأمي ، كانت للموسيقى قصة أخرى. جدي يحب أم كلثوم وصباح فخري وكانت رؤيته وهو يستمع لهم تشبه رؤية شخص في تجربة روحية مقدسة كان يهيم حرفيا في الموسيقى أما جدتي لأمي “فطوم” ، فكانت تقول إن صوت أم كلثون مجرد “جعار” لا يحتمل. اعتدنا  أن تفعل ذلك، تعترض فقط لأن الجميع يوافق. وها أنا، الآن، أعتذر منكِ يا أم كلثوم، بالنيابة عنها. لستِ المشكلة. المشكلة أن فطوم لا تحب الإجماع.

في تلك الأيام، لم يكن الإنترنت موجودًا. لم يكن بمكانك استحضار أغنيتك المفضلة عندما تريد بل أنت وحظك.  كنت تنتظرها أن تُذاع على “روتانا كلاسيك” أو “روتانا موسيقى”، أو تظهر فجأة في مشهد من مسلسل وأظن الآن أن الأشياء تكون أجمل  عندما  لا تكون  متاحة دائمًا.

ومن هذا المنطلق كان لعبة “الأغنية الجاية حظك” التي كنت ألعبها مع خالاتي بجانب الراديو في المطبخ، كانت تشبه لعبة العمر كله. لا تعرف ماذا ستسمع، لكنك تنتظر على أي حال.

الآن، ومع أن كل الأغاني على بُعد كبسة زر، أفتقد تلك النشوة الصغيرة حين تباغتك أغنيتك في الوقت الخطأ، لكنها رغم ذلك تبدو أنها جاءت فقط من أجلك. أحاول استحضارها أحيانًا وأنا أقود السيارة وأقوم بتشغيل الراديو  لأستمع لحظي.

أنا لا أسمع الأغاني فقط، أنا أختزنها. كل أغنية لها مرحلة. لها وقت. لها شخص. وفي كل مرة أشارك فيها أغنية مع أحد، أشعر أني أفتح له درجًا من أدراجي الخاصة. وعلى مدار حياتي فإن عدد الأشخاص الذين ربطتني بهم علاقة مشاركة الموسيقى ثلاثة أرواح لا غير.

أكتب هذا النصّ الآن  لأرتّب ذاكرتي، علّ الرجوع إلى الوراء يرمم ما خلخلته الأيام واسطنبول مؤخرا فيّ. أحاول أن أستعيدني.


يا غايب- فضل شاكر

فضل شاكر كان المغنى المفضل لدي صوته رقيق وحنون، كان أول من اقتنيت له شريط في حياتي، كان هذا واحذ من أعظم انتصارتي.

كنت صغيرة. وكانت تاتا ليلى  قد ماتت. وكان البيت ناقصًا. كان غيابها قاتلًا افتقدت النوم يجانبها وافتقدت أن أقوم بتنسيق شعرها قبل النوم وندائها لي ولأختي مجدولين لنرقص لها. تعرفت وقتها على معنى الغياب لأول مرة. شعرت بأن هذه الأغنية تتحدث عن تاتا وعن غيابها.


منتصب القامة أمشي- مارسيل خليفة 

كان أبي يستمع إليها كثيرا على شريط كاسيت يحتوى أغاني أخرى عن فلسطين والمقاومة- وأذكر أني حفظته عن ظهر قلب وكنت أطلب أن نقوم بنشيد منتصب القامة أمشي في المدرسة ( لم يعجبهم الاقتراح على أية حال) كنا نخطط للعودة إلى الخليل لنستقر هناك لذلك اقترح علينا بابا أن نحفظه قبل الوصول هناك وهو ما قمنا به بكل حماس أنا وأختى. وصلنا في ٢٨ من أيلول للعام ٢٠٠٠.
لم يكن هناك ثمة من مكان للغناء فكما قد تعلم مان هذا اليوم الذي بدأت فيه الانتفاضة الثانية.

بقينا هناك مكا يقارب الخمسين يوم وبعدها فهمت كلمات الأغنية. لم تعد الأغنية مجرد كلمات ومنذ ذلك الحين أستمع لهذه الأغنية التي تمنحتني شعور غامر بالقوم وتدفعني لكي أنجو برأس مرفوع.
.

ليه بيداري كده- روبي 

لا أحد منا ينسى روبي ولقاؤه الأول معها، والضجة التي أثارتها عنذ ظهورها على الشاشات لأول مرة ومشهد التنورة والدراجة. الان بالتأكيد لم أكن أفهم معنى الأغنية وقتها إلا أن روبي سحرتني كانت تتحرك بخفة دم غير مسبوقة غير آبهة بأحد. وأعتقد بأني بدأت بالرقص لا إراديا وقتها وأدركت أنه يمكنني الرقص على أغنية بدون أن يكون عرس بنت خالتي .


إذا الشمس غرقت – الشيخ إمام

إذا الشمس غرقت ف بحر الغمام

ومدت على الدنيا موجة ظلام

ومات البصر فى العيون والبصاير

وغاب الطريق فى الخطوط والدواير


أول مرة شعرت بمعنى  “ثورة”.. كان لقائي الأول بهذه الأغنية وأنا أتابع أحداث الثورة في مصر، هي واحذة من أشهر أغاني الشيخ مام التي كان يحتفي فيها بقوم الثورة والكلمة والغضب.   لم أكن قادرة على استيعاب المشهد وكيف يقتل انسان ما شعبه. لكن الأغنية مدتني ولا تزال بقوة داخليه رهيبة على ضرورة الثورة على نفسي وعلى الطاغية.  


في يوم وليلة- وردة 

وردة هي مغنيتي المفضلة بالتأكيد. سألني عبدالله مرة عن الأقنية التي سأود الاستماع لها لبقية حياتي فأجبته أنها تلك الأغنية . لم نكن قد التقينا بعد كان هو في اسطنبول وأنا في عمان ومرت السنون علينا وجأت أنا إلى اسطنبول وعندها قام بإهدائي اسطوانية vinyl في يوم وليلة لوردة. كنت أنا قد نسيت أنتي أخبرته أنها أغنيتي المفضلة ولكنه لم ينس -كعادته-. لن أستطيع أبدا نسيان الدفء الذي حل وقتها بقلبي مع أن برد اسطنبول حينها كان قارسا والحرارة ٣ درجات تحت الصفر إلا أنني كنت أرغب بالركض في الشارع بلا معطف من شدة الفرح ( لم أقم بذلك طبعا حتى لا يقول عني أني مجنونة٠ تزوجنا لاحقٍا وهو يدرك ذلك جيدا الآن.



,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *