التدوينة الخامسة: الثوم المقشر لا يزيد الإنتاجية


لم أرد الحديث عن الوقت. ليس لأنه لا يعنيني، بل لأنه يعنيني أكثر مما أحتمل.
علاقتي به معقّدة. مشوّشة. أنا مهووسة بتنظيمه، بتسريعه، بعدم التفريط في. لم أتأخر يومًا عن موعد، لا مبالغة هنا،  أبدًا. دائمًا أصل قبل الموعد بربع ساعة على الأقل. هذا النظام الصارم سبّب لي خلافات حقيقية مع أصدقائي، وأهمها مع شيرين، صديقتي الأقرب، التي لم تأتِ في موعدها مرة واحدة. أحبّها، ولذلك فقط لم أنهِ علاقتي بها.

قضيت عمري على شرفة الانتظار. أنتظر أن تنتهي أشياء كي تبدأ أشياء. الآن فقط أسأل نفسي: ما الذي أظنه سيبدأ؟ هل أظن أن هذه الحياة مجرد Demo يعني أو شو؟

أكاد لا أذكر مرحلة من حياتي كنت فيها حاضرة تمامًا. الاعتراف بهذا مؤلم. لكنه حقيقي. ورغم ذلك، هناك في داخلي رغبة صادقة بأن أتعلم كيف أعيش اللحظة، أن أتنفّسها دون استعجال. -اليوغا تساعدني على ذلك-. 

الماضي يلتهم الحاضر، والمستقبل يبتلع الاثنين. نخشى ما كان، ونقلق مما سيكون. في أغنية المفضلة لكايروكي  يعبّرون عن هذا الخوف العالق فينا جميعًا:

“كل الناس خايفة من بكرا، وييجي بكرا وهم خايفين،

بكرا مش يوم، بكرا ده فكرة، هما جواها محبوسين.”

وهذا ما يبدو عليه الزمن أحيانًا: ليس حدثًا، بل سجنًا ذهنيًا. لا نعيش فيه بل نُحبس داخله، نُقيد أنفسنا بتصوّرات لا نتحقق منها أبدًا. بكرا… فكرة، لا وقت.

نعيش في عالم تحكمه الساعات والمنبّهات والتقويمات. لدي ما يزيد عن مئة منبّه في هاتفي، ونغمة استيقاظي مفزعة، تعكس تمامًا علاقتي بالوقت. من اللحظة التي نستيقظ فيها، وحتى آخر موعد في اليوم، يُدير الزمن كل تفصيلة من حياتنا. نطارده، نقيسه، نخطط له. لكنه لا يتوقف. ولا نتوقّف نحن أيضًا.

هوسنا الجماعي بالزمن لم يبدأ اليوم. تفاقم حين تحوّل الوقت إلى وحدة إنتاج. وعندما صار النجاح يُقاس بكم ننجز، لا كيف نعيش. والآن، في هذا العالم الرقمي المتسارع، أصبح الضغط نمط حياة: كل دقيقة يجب أن تُستثمر، وكل ثانية يجب أن تثمر.

طيب شو يعني؟
لنحص الخسارات الآن؟ نخسر الحضور. نخسر القدرة على ملاحظة التفاصيل التي تصنع الذاكرة والعلاقات. في كل مرة نُسرع فيها الحديث، نأكل على عجل، نتجاهل سؤال طفل أو فكرة مرّت بخفة – نخسر.

الزمن، حين يُعامل كمهمة لا كشعور، يُفسد علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين. نصبح أجسادًا حاضرة وعقولًا غائبة. كل شيء يتحوّل إلى محطة مؤقتة، لا نستقرّ فيها إلا استعدادًا للخطوة التالية. حتى الإبداع يخفت في الصخب. الأفكار لا تولد في الضجيج، بل في الصمت. في الفراغ الذي حشوت أيامي هربًا منا أنا أدرك ذلك.

الحداثة لم تُعد تصنّف الأفراد ضمن “مجتمع الطاعة” كما في الماضي، بل في “مجتمع الأداء”. لم نعد نخضع لأوامر خارجية، بل نجلد أنفسنا طواعية لننجز أكثر. لا نحتاج إلى سجن مادي. لدينا جداول، وتطبيقات إنتاجية، وساعات ذكية تُذكّرنا أننا تأخرنا عن الركض، أو أن نومنا غير مثالي.

نحن لسنا أسرى زمن خارجي، بل سجناء في “سجن ذاتي”نُراقب فيه أنفسنا، ونُكافئ أو نُعاقب بناءً على مستوى “كفاءتنا”. كل لحظة لا يُستثمر فيها شيء، تُعتبر لحظة ضائعة. وهذا ما يجعل فكرة الثوم المقشّر والمغلف أو البطيخ المقطع والوجبات الجاهزة (المخصصة للمايلات ع قولة ستي، طبعًا هي تسعمل وصف آخر لن أتمكن من الإفصاح عنه) أكثر من مجرد منتجات  إنها رموز لهذا الانحدار الهادئ نحو عبودية ذاتية مختارة.

وهنا أعود إلى نفسي، وأسألها: كم مرة اختزلتُ استراحة؟ أو أكلتُ وجبة دون تذوقها؟ كم مرة استعجلتُ شيئًا جميلًا فقط لأنني شعرت بالذنب من “الفراغ”؟ أنا أخاف من الفراغ أخاف من الراحة أكثر من خوفي من الموت.

مؤخرا أحاول أن ألاحظ كيف يتعامل من حولي مع الوقت، ووجدت بابن أختي، آدم، لم يدرك بعد أن الزمن خطّي. يعرف الروتين -متى ينام ومتى يأكل-  لكنه يخلط بين “أمس” و”غدًا”. يسألني مثلًا: “ألم تأتِ إلينا بكرا؟” ويقصد أمس. الأطفال. لا يُرعبه التأخير، لا يركض للحاق بشيء، ولا يُحاسب نفسه على “ضياع الدقائق”. إنه يحترف عيش اللحظة كما هي، كاملة، غير مُجزّأة.
يطلب الاحتفال بعيد ميلاده عندما يشعر بالملل. فيتناول  كعكة جديدة كل أسبوعين تقريبًا مرة للاحتفال بعيد ميلاده الخمسين أو الثالث بحسب شعوره. هذا الإدراك غير المكتمل يمنحه حرية لا نملكها نحن: الزمن لديه شعور، لا تقويم.
بحثت وقرأت فوجدت أن إدراك الأطفال للزمن يختلف حقًا عن إدراكنا كبالغين. هم لا يميزون بوضوح بين “أمس” و”غدًا”، ويعيشون الحاضر دون الشعور بأنه نقطة بين الماضي والمستقبل. لا يفكّر الطفل في الوقت الذي “وفّره”، ولا يقلق من موعد لاحق. بالنسبة له، اللحظة تمتد وتتشعّب حسب ما يشعر به فيها. إذا كانت ممتعة، فهو يريدها أن تطول. وإذا كانت مملة، فهي لا تنتهي.

حتى إدراكهم لمدى طول أو قصر الزمن مرتبط بمشاعرهم، لا بعدد الدقائق الفعلية. في تجربة طُلب فيها من مجموعات مختلفة مشاهدة مقاطع فيديو بنفس الطول الزمني، شعر الأطفال أن المقطع المليء بالحركة أطول بكثير من الآخر الهادئ. بينما كانت النتيجة عكسية مع الكبار. ما يثبت أن الزمن لا يُقاس بما نعيشه، بل بما نشعر.

أجسادنا تتغير مع التقدم في السن، ومعها تتغير سرعتنا في استقبال الصور الحسية من محيطنا، ما يجعلنا نشعر أن الزمن “ينضغط” ويصبح أسرع. ببساطة، الطفل يرى أكثر، يلاحظ أكثر، يلتقط أكثر  ولذلك يشعر بالوقت كأنه أطول وأكثر امتلاءً.

وقد يكون هذا هو الفارق الأهم: الأطفال لا يعيشون على إيقاع الساعات، بل على إيقاع القلب والانتباه. كل لحظة قد تكون عالماً كاملاً، وكل دقيقة يمكن أن تصنع ذكرى. أما نحن، فنهرب من اللحظة لنقلب الصفحة ونشوف اللي بعده.

في الثقافة الصوفية، يتجسّد الوقت كمرآة للنفس. يقول ابن عطاء الله السكندري: “ما من نفس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه.” الزمن ليس خارجك، بل داخلك. هو حالك، لا ساعتك. وهم يعيشون الوقت “سرورا مع الحق، فإذا انشغل الواحد منهم بالغد أو انغمس بالتفكير في الأمس “حجب عنه الوقت والحجاب تشتت”.
  وربما هذا هو مربط الحكاية كله

لا نحتاج إلى وقت أكثر. بل إلى علاقة صحية معه.

أن نمنح اللحظة حقّها، دون أن نطلب منها أن تكون مثالية. أن نتوقف عن الركض خلف جدول لا نعرف إلى أين يأخذنا. أن نُبطئ قليلًا، لا كسلاً، بل اتساعًا وسرورًا.

ليلى “السريعة”  (لقبي في المدرسة) لا  تنقذي الأيام اللي جاي فبكرا هو فكرة. بس فكرة.

لحظة تذكرت أغنية أيامي اللي جاي الجديدة لفضل شاكر ويبدو أن علاقته مع الوقت تحتاج إلى إصلاح هو الآخر.
“يا الإيام الجاي

قولي شو مخباي

في شي ضحكة يلا احكي قولي لي النهاية” 


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *